2020/01/18

احتكاكات العقل الفلسفي العربي ـ اضاءات فلسفية ـ


في محاولة للتوفيق بين الخطاب الديني والعقلي، استهلَّ ابن رشد كتابه (فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من اتصال) بسؤال: هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع، أم محظور أم مأمور به، أم على جهة الندب، أم على جهة الوجوب؟. هذا الكتاب الذي حُرمَ منه العقل العربي حتى ظهرَ لأول مرة سنة 1859طبعة مللر في ميونيخ، يبين أن هذا السؤال جاء كضرورة ثقافية اجتماعية ملحة في عصره آنذاك، حيث كانت الفلسفة مُحرَّمة أو مشبوهة في أفضل أحوالها، وقد جاء في الفقه الحنفي (الْفَلْسَفَة لَفْظٌ يُونَاني، وِتَعْرِيبُهُ الحكَمُ المموهة: أَيْ مزينة الظَاهر فَاسدَةُ الْبَاطَنِ، كالْقَوْلِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَغَيْرِهِ مِنْ المكَفِّرَاتِ وَالمحرمَاتِ)  
احتكاكات العقل الفلسفي العربي ـ اضاءات فلسفية ـ


وفي المذهب الشافعي يذكر الإمام السيوطي ستة أقسام للعلوم بحسب شرعيتها في كتابه (الأشباه والنظائر): فرض كفاية كالطب، فرض عين كالصلاة والعبادات، مندوب كالتبحر في علوم القسمين السابقين، حرام كالفلسفة، والشعوذة، والتنجيم، والرمل، والسحر 

بينما يجيب ابن رشد السؤال الذي طرحه على قارئه، ببديهية واضحة (الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به، فنملك بين في غير ما آية من كتاب الله تبارك وتعالى، مثل قوله تعالى " فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ " ... ومثل قوله تعالى " أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ " ونتيجة رقم واحد (وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكأن الاعتبار ليس شيئاً

اكثر من استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، وهذا هو القياس أو بالقياس.
 فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي). ثمَّ يحقق قفزة إلى الرقم اثنين (يجب علينا إن ألفينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظرا في الموجودات، واعتباراً لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم:
 فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وهـرنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم) وهو ما فعلهُ ابن تيمية فقرأ كتبهم، قبل أن يؤلف كتابه (الرد على المنطقيين)، ويمضي ابن رشد مسترسلا في النتيجة رقم ثلاثة (فقد تبين من هذا أن النظر في كتب القدماء واجب بالسرع، إذا كان مغزى كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، ومن نهى عن النظر فيها من كان أهلاً للنظر فيها- وهو الذي جمع أمرين أحدهما ذكاء الفطرة، والثاني العدالة الشرعية والفضيلة الخلقية - فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله، وباب النظر المؤدي إلى معرفته حق المعرفة.

 وذلك غاية الجهل والبعد عن الله تعالى). وتحت عنوان فرعي (موافقة الشريعة لمناهج الفلسفة) يؤكد النتيجة الثالثة (فإن هذا النحو من الضرر الداخل من قبلها هو شيء لحقها بالعرض لا بالذات. وليس يجب فيما كان نافعاً بطباعه بذاته أن يترك، لمكان مضرة موجودة فيه بالعرض. ولذلك قال عليه السلام للذي أمره بسقي العسل أخاه لإسهال كان به، فتزايد الإسهال به لما سقاه العسل، وشكا ذلك إليه: "صدق الله وكذب بطن أخيك"، بل نقول إن مثل من منع النظر في كتب الحكمة مَن هوِ أهل لها، من أجل أن قوماَ من أراذلَ الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم
فيها، مثل من منع العطشان شرب الماء البارد العذب حتىٍ مات من العطش، لأن قوما غرقوا به فماتوا. فإن الموت عن الماء بالغرق أمر عارض، وعن العطش أمر ذاتي وضروري).

أينَ الخطورة في فعل القراءة ؟ 

 وقد كان الفعل الإلهي الأول في القرآن الكريم؟ أليس حجر القراءة تعكير لصفو المناهج الصحي للتفكير البشري؟ خاصَّة وأن لدينا تراثا هائلا منٍ الفكر الإنساني، الذي أبدا لن يسعنا الوقت لمطالعته والوقوف عليه، وحين يسوق أمبرتو إيكو حوار الراهب جيوم بطل روايته "اسم الوردة" مع الراهب صانع الزجاج: (-نحن لم تعد لدينا حكمة القدامى، ولقد ولى زمن العباقرة وإلى الأبد. فقال جيوم مؤيداً: 
-إننا أقزام ولكننا نقف فوق أكتاف أولئك العمالقة ورغم صغرنا نستطيع أن نرى في بعض الأحيان أبعد منهمٍ في الأفقٍ)3. فإنَّه ينوَه بعدم مقدرة الإنسان ولو أعطيَ عمرا مضاعفا أن يقرأ تراث الفكر الإنساني. انزياح هالة القداسة من القراَن والسنة إلى مقولات الفقهاء، والمفسرين، منعَ النظر في الكثير من المقولات، فالفلسفة هي حب الحكمة، وطلبها، وليست الحكمة المزيفة، وأين الخطورة في طلب الحكمة وقد قِال تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) البقرة في 269. وقوله تعالى (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) الإسراء:39. وقوله تعَالىَ (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) 

 وفي الحديث (الحكمة ضالةَ المؤمن) يطلبَها كَما يطلب الرجل ضالته، وأينَ يطلبها إن لم يكن في متون الكتب؟ وقد وقعَ الاختلاف في الوضوء مما مَست النار، روى أبو هريرة حديثاً(توضأ مما مسته النار) فقال له ابن عباس: (أنتوضأ من الحميم أي الماء الحار)، أي على مقتضى هذا الحديث أنَّ الإنسان إذا توضأ بالماء الحار، يتوضأ ثانية بالماء البارد، فرد عليه أبو هريرة (يا ابن أخي إذا سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فلا تضرب له الأمثال) فالمراد ما مست النار من مأكول، واستمز الجدل حتى تبين أن الحديث منسوِخِ بأحاديث لاحقة، منها ما روِاه الحَسَنِ عَنِ فَاطمَةَ قَالَت دَخَل عَلى رَسُولُ الله صَلىِ اللَّه عَليه وِسَلمَ فأَكَل عَرَقًا فَجَاءَ بلَال بالأَذَانِ فقَامَ ليُصَليَ فَأَخذتُ بثَوبهَ فقُلتُ يَا أَبَه أَلا تَتَوَضأُ فًقَالَ مَمِ أَتَوَضَّأُ يَاَ بُنَيَّةُ فقُلتُ مماَ مَستَ النارُ فَقَالَ لي أَوَ ليسَ أَطيَبُ طعَامِكُم مَا مَستهُ النارُ). وبرز المفسِرون: لِمَا كَانت عليه الجاهلية والأعراب من قلة التنظيف، شُدَدَ عليهم بشرِيعة الوضوء، فلما التزموا النظافة وصارت سلوكاً فيهم نسِخ التشديد،

الصفحة التالية